السلام عليكم
كم هي جميلة الحياة، عندما تستقيم العلاقات بين الأفراد على أسس من التعايش السليم،
فلا غنى للمرء من أن يحيا بين أُناس يحبهم ويحبونه، حب قائم على الاحترام المتبادل، بل
إن هذا من صفات المؤمنين، فالمؤمن يألَف ويؤلَف.
فالإنسان الطبيعي جُبِلَ على السعي لإشباع حاجاته المتعددة حتى تستقر له الحياة، ومنها
حاجات مادية، وهذه من السهل أن يتغاضى عن الكمال فيها مثل الطعام الذي يكفيه منه
القليل، والملبس الذي يكتفي منه بما يستر من عري، والمسكن الذي قد لا يتطلع أصلاً إلى
حياة الترف والمغالاة في تأسيسه.
أما الجانب الآخر من الاحتياجات الهامة للإنسان فهي الجانب المعنوي والعلاقات
الاجتماعية السوية؛ فهذه ليس فيها وسطية، فإما أن تكون قائمة على الاحترام أو على
عدم الاحترام، والأخير لا يرضاه الإنسان السوي لنفسه، وعندما يحدث ذلك يمثل له
مشكلة كبيرة.
فمن الممكن أن يتحقق الاحترام بين الناس بدون إقامة علاقات وثيقة؛ لأن هذا هو الأصل
في التعامل كما قال الله عز وجل: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ". فالاحترام جزء من منظومة
الحياة، ولكن لا يمكن أن تُقام معاملات بين الناس بدون احترام.
وكذلك لا يستطيع الإنسان أن يلجأ في حل مشكلاته إلى العزلة عمّن أساء إليه؛ لأنها شاقة
على النفس؛ إذ تخالف فطرة الإنسان التي فطره الله عليها، فلا حياة بلا بشر؛ فالحديقة
الغناء من غير النفوس الطيبة والأخلاق الحسنة تتحول إلى صحراء مقفرة.
ومن هنا تأتي ضرورة التعايش مع الآخر على أسس تضمن استقرار حاجات الإنسان
المعنوية والاجتماعية، كما في الحاجات المادية، ولقد بين الله -عز وجل- ذلك في قوله:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".
نعم أيها الأحبة في الله.. نتعارف كما أمرنا الله، ونتعامل سوياً فيما بيننا بالتقوى، وكما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
ولكن كما يُقال (الحذر لا يمنع القدر)؛ فلا بد من حدوث المشكلات، بل إن حدوثها في
بعض الأحيان قد يكون ضرورة حتى نتعلم من أخطائنا (فالذي لا يخطئ لا يتعلم)،
وكذلك لا ننسى أن الشيطان ينزغ بيننا فلا بد من الخلاف...
إذن أين المشكلة؟
المشكلة الحقيقية أننا قد نُسيء أو نجهل طرق حل الخلافات، فنجد أنفسنا نُفسد من حيث
يجب أن نُصلح، فقد نخذل طرفاً ونجامل آخر، فنـزيد بهـذا المظلوم ظلماً على ظلمه، مع
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً...". ونصرة
الظالم برده عن ظلمه للناس، ونصرة المظلوم بمساعدته في رد الحق له، ولكن إذا تعذر
على الطرفين تجاوز الموقف أو التغاضي عنه، فماذا نفعل حتى لا يتحول الإصلاح بين
الطرفين من حوار إلى انهيار...؟!
_ أن نلجأ في الإصلاح إلى أهل الإصلاح:
فليس كل فرد لديه القدرة على وضع الأمور في نصابها، وكذلك المقدرة على استيعاب
الآخرين، وقد بين الله -عز وجل- صفات المصلح بين الطرفين في قوله: "فَابْعَثُواْ حَكَماً
مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا" وفي قوله: "وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ"، فيجب توافر صفة
الحكمة والعدل حتى لا يُظلم من يجب نصرته.
_ ألاّ نحكم على الخطأ من وجهة نظرنا نحن:
إلاّ بعد معرفة مدى أثره على من وقع عليه، ولنعلم أن الناس متفاوتون في قدرة التحمل؛
فذات الفعل قد يعتبره البعض شيئاً هيناً وبسيطاً، وعند الآخر مشكلة كبيرة، وهذا يرجع
لاختلاف البيئات وطريقة التربية التي يتلقاها الإنسان وينشأ عليها.
_ أن نفرق بين الفعل ورد الفعل:
فعندما يحدث تجاوز من شخص في حق آخر فهذا (فعل) يجب معرفة أسبابه حتى يمكن
علاجه، ومقابل هذا يكون هناك (رد فعل) من المُساء إليه، وقد يكون رد الفعل صغيراً،
ولكن إذا تجاوز رد الفعل حيزه الطبيعي فستصبح لدينا مشكلة أخرى، وهنا يجب توجيه
كل من الطرفين، ولكن التوجيه بالنسبة لصاحب الفعل يكون بمثابة علاج وردع، أما
التوجيه بالنسبة لصاحب رد الفعل يكون بمثابة تقويم، حتى نحبب له كظم الغيظ الذي يمنع
من اشتعال لهيب الخلافات التي تسري في النفوس المتشاحنة كانتشار اللهب في الهشيم.
_ وأخيراً:
إذا تيسر لصاحب الحق القدرة على أخذ حقه فيجب هنا أن نحثه على الفضائل، ونذكره
بفضل التجاوز عن الآخرين، و العفو يكون عند المقدرة، وبهذا تستقر العلاقات
الاجتماعية سوية و نقية مما يحفظ النفوس.